االإقامة في مخدع الكلمات
أنا بنت نيسان "شهر الكذب" وليس من عادة الأسماك أن تصدق، غير أن لي
نُبل الاعتراف بذلك، حتى إنني سمَّيتُ إحدى مجموعاتي "أكاذيب سمكة". ولم
أتردّد في تنبيه القارئ بين جملتين إلى احتمال أن يكون ما يقرأه في رواياتي
منسوجاً من دانتيل الأكاذيب.ـ
على الرغم من ذلك، كثيراً ما يرفض القارئ إمكانية أن يكون أمام نص مُخادِع.
وينوب عن زوجي في محاسبتي، كما ناب الشعب الأميركي عن هيلاري في محاسبة
بيل كلينتون.
أكبر حماقة تقترفها كاتبة، هي التبرؤ ممّا يُحيط كتاباتها من شُبهات. فليس
واجبها أن تدافع عن عفّة الكتابة وبراءتها، ولا أن تبرر مزالق أبطالها
ونزواتهم. فلا أحد غيرها يدري أن الرواية هي أيضاً فن إسناد أقوالك وأفعالك
للآخرين.ـ
الكتابة فعل إرباك واستدراج للقارئ إلى كمين لغة ملغومة بالاحتمالات، وبذلك
البوح المشفّر الذي تختفي خلفه المرأة الكاتبة.ـ
شخصياً لا أثق ببراءة القارئ. لذا لا أقوم بجهد البحث له عن لغة معصومة..
تشبُهه. وأشارك "بودلير" قوله مخاطباً هذا القارئ: "أيها القارئ المخادع،
أخي.. يا شبيهي".ـ
لماذا نحبُّ كاتباً بالذات؟ لا لأنه يُبهرنا بتفوّقه علينا، بل لأنه
يُدهشنا بتشابهه معنا، لأنه يبوح لنا بخطاياه ومخاوفه وأسراره، التي ليست
سوى أسرارنا. تلك التي لا نملك شجاعة الاعتراف بها، حتى لهذا الكاتب نفسه.
حدث أن جاءتني صحافية، وفي حوزتها روايتي "فوضى الحواس"، وقد وضعت سطوراً
وإشارات وهوامش على كثير من جُملها، حتى بَدَا الكتاب طاعناً في العمر.
وعَبَثاً حاولتُ أن أستعيره منها، لأعرف ما أحبَّته بالتحديد في كتابي.
لكنها رفضت، واعترفت لي بأنها تخاف إن تصفَّحته أن أعرف الكثير عنها. فقلت
لها متعجِّبة: "ولكنك تعرفين عني ما يكفي ليكون لي حقّ التجسس عليك أنا
أيضاً!"، فاكتفت بالضحك، وأخفت الكتاب.ـ
وحدث أن طلبتُ من نزار قباني يوماً، أن يطلعني على نسخة "ذاكرة الجسد" التي
في حوزته، بعدما حكى لي مرة، أنه كلّما أطلع أصدقاءه على الرواية ليحثهم
على قراءتها، كانوا يعجبون لعدد السطور التي وضعها تحت الجُمَل التي
"كتبتها فيها".ـ
لكنّه، رحمه اللّه، ضحك، ولم يستجب لطلبي. ومازلت أتمنّى أن تهديني ابنته
هدباء تلك النسخة أو تسمح لي بالاطِّلاع عليها. أو تصويرها، عساني أعرف بعض
ما أخفاه عني نزار قارئاً.ـ
هذه الحادثة جعلتني أعتقد أنّ الكاتب نفسه عندما يتحوّل إلى قارئ، تنتابه
أعراض الحَيَاء إيَّاها. ففي القراءة حميميّة لا تعادلها إلاّ حميميّة
الكتابة.ـ
لذا مثلاً، يزعجنا ونحن نطالع مجلة أو كتاباً في حافلة، أن يقف أحد خلفنا
ويبدأ في مشاركتنا القراءة، لأنه لحظتها يكون منهمكاً في مطالعتنا.ـ
ولأننا اعتدنا ألاّ نسأل الذين يقرأون لماذا يفعلون ذلك، بقدر سؤالنا
الكتّاب، لماذا هم يكتبون. فبإمكاني أن أجيب مستندة إلى قول "رولان بارت":
"الكتابة هي فن مزج الشهوات"، إنني أكتب لمتعة الإقامة في مخدع الكلمات،
وأظنّ أنّ كثيراً من القارئات يشبهنني ويقرأنني، لأنهن يشاطرنني قدراً
نسائياً لا يخلو من المراوغة الضرورية. ومن النفاق المتوارث، الذي يبدأ من
التفاصيل المخادعة للحياة اليوميّة. وينتهي في مخدع "الشرعيّة". وفي كلّ
مخدع نحن نحتاج إلى مكر الحواس، ومكيدة اللغة، لننجو من ورطة الواقع. فهكذا
أنقذت جدتنا شهرزاد رأسها من الموت عندما راحت في مخدع الكلمات، تكيد
لشهريار باللغة ليلة بعد أُخرى. منذ ذلك الحين، أصبح للذاكرة النسائية
حيلٌ، إحداها الكتابة. وللرواية ذرائع.. إحداها تبييض الأكاذيب، كما
يُبيِّض البعض الأموال غير المشروعة.ـ
ومن هنا جاء قول كاتبة فرنسية "الروائي كذاب يقول أشياء حقيقيّة". وجاء قول
غادة السمّان: "العمل الإبداعي كذب مركّب". لذا لمزيد من الكذب يحدث أن
أكتب لكم بعض النصوص المخادعة، التي عليكم أن تنسوا أحياناً.. أنّها تبييض
لأحلام غير شرعية.ـ
***
أحلام مستغانمي من مقالات زهرة الخليج
أنا بنت نيسان "شهر الكذب" وليس من عادة الأسماك أن تصدق، غير أن لي
نُبل الاعتراف بذلك، حتى إنني سمَّيتُ إحدى مجموعاتي "أكاذيب سمكة". ولم
أتردّد في تنبيه القارئ بين جملتين إلى احتمال أن يكون ما يقرأه في رواياتي
منسوجاً من دانتيل الأكاذيب.ـ
على الرغم من ذلك، كثيراً ما يرفض القارئ إمكانية أن يكون أمام نص مُخادِع.
وينوب عن زوجي في محاسبتي، كما ناب الشعب الأميركي عن هيلاري في محاسبة
بيل كلينتون.
أكبر حماقة تقترفها كاتبة، هي التبرؤ ممّا يُحيط كتاباتها من شُبهات. فليس
واجبها أن تدافع عن عفّة الكتابة وبراءتها، ولا أن تبرر مزالق أبطالها
ونزواتهم. فلا أحد غيرها يدري أن الرواية هي أيضاً فن إسناد أقوالك وأفعالك
للآخرين.ـ
الكتابة فعل إرباك واستدراج للقارئ إلى كمين لغة ملغومة بالاحتمالات، وبذلك
البوح المشفّر الذي تختفي خلفه المرأة الكاتبة.ـ
شخصياً لا أثق ببراءة القارئ. لذا لا أقوم بجهد البحث له عن لغة معصومة..
تشبُهه. وأشارك "بودلير" قوله مخاطباً هذا القارئ: "أيها القارئ المخادع،
أخي.. يا شبيهي".ـ
لماذا نحبُّ كاتباً بالذات؟ لا لأنه يُبهرنا بتفوّقه علينا، بل لأنه
يُدهشنا بتشابهه معنا، لأنه يبوح لنا بخطاياه ومخاوفه وأسراره، التي ليست
سوى أسرارنا. تلك التي لا نملك شجاعة الاعتراف بها، حتى لهذا الكاتب نفسه.
حدث أن جاءتني صحافية، وفي حوزتها روايتي "فوضى الحواس"، وقد وضعت سطوراً
وإشارات وهوامش على كثير من جُملها، حتى بَدَا الكتاب طاعناً في العمر.
وعَبَثاً حاولتُ أن أستعيره منها، لأعرف ما أحبَّته بالتحديد في كتابي.
لكنها رفضت، واعترفت لي بأنها تخاف إن تصفَّحته أن أعرف الكثير عنها. فقلت
لها متعجِّبة: "ولكنك تعرفين عني ما يكفي ليكون لي حقّ التجسس عليك أنا
أيضاً!"، فاكتفت بالضحك، وأخفت الكتاب.ـ
وحدث أن طلبتُ من نزار قباني يوماً، أن يطلعني على نسخة "ذاكرة الجسد" التي
في حوزته، بعدما حكى لي مرة، أنه كلّما أطلع أصدقاءه على الرواية ليحثهم
على قراءتها، كانوا يعجبون لعدد السطور التي وضعها تحت الجُمَل التي
"كتبتها فيها".ـ
لكنّه، رحمه اللّه، ضحك، ولم يستجب لطلبي. ومازلت أتمنّى أن تهديني ابنته
هدباء تلك النسخة أو تسمح لي بالاطِّلاع عليها. أو تصويرها، عساني أعرف بعض
ما أخفاه عني نزار قارئاً.ـ
هذه الحادثة جعلتني أعتقد أنّ الكاتب نفسه عندما يتحوّل إلى قارئ، تنتابه
أعراض الحَيَاء إيَّاها. ففي القراءة حميميّة لا تعادلها إلاّ حميميّة
الكتابة.ـ
لذا مثلاً، يزعجنا ونحن نطالع مجلة أو كتاباً في حافلة، أن يقف أحد خلفنا
ويبدأ في مشاركتنا القراءة، لأنه لحظتها يكون منهمكاً في مطالعتنا.ـ
ولأننا اعتدنا ألاّ نسأل الذين يقرأون لماذا يفعلون ذلك، بقدر سؤالنا
الكتّاب، لماذا هم يكتبون. فبإمكاني أن أجيب مستندة إلى قول "رولان بارت":
"الكتابة هي فن مزج الشهوات"، إنني أكتب لمتعة الإقامة في مخدع الكلمات،
وأظنّ أنّ كثيراً من القارئات يشبهنني ويقرأنني، لأنهن يشاطرنني قدراً
نسائياً لا يخلو من المراوغة الضرورية. ومن النفاق المتوارث، الذي يبدأ من
التفاصيل المخادعة للحياة اليوميّة. وينتهي في مخدع "الشرعيّة". وفي كلّ
مخدع نحن نحتاج إلى مكر الحواس، ومكيدة اللغة، لننجو من ورطة الواقع. فهكذا
أنقذت جدتنا شهرزاد رأسها من الموت عندما راحت في مخدع الكلمات، تكيد
لشهريار باللغة ليلة بعد أُخرى. منذ ذلك الحين، أصبح للذاكرة النسائية
حيلٌ، إحداها الكتابة. وللرواية ذرائع.. إحداها تبييض الأكاذيب، كما
يُبيِّض البعض الأموال غير المشروعة.ـ
ومن هنا جاء قول كاتبة فرنسية "الروائي كذاب يقول أشياء حقيقيّة". وجاء قول
غادة السمّان: "العمل الإبداعي كذب مركّب". لذا لمزيد من الكذب يحدث أن
أكتب لكم بعض النصوص المخادعة، التي عليكم أن تنسوا أحياناً.. أنّها تبييض
لأحلام غير شرعية.ـ
***
أحلام مستغانمي من مقالات زهرة الخليج
الخميس نوفمبر 04, 2010 3:41 am من طرف همسة حنين
» أحاديث صحيح البخارى ( الجزء الرابع ) حجازى رشاد المحامى
الأربعاء أغسطس 11, 2010 7:58 am من طرف همسة حنين
» فاروق جويدة .. في عينيك عنوانى
الأربعاء أغسطس 11, 2010 7:43 am من طرف همسة حنين
» قصة الورزاء الثلاثة
الأربعاء أغسطس 11, 2010 5:51 am من طرف نسمة أمل
» أحاديث صحيح البخارى ( الجزء العاشر ) حجازى رشاد المحامى
الإثنين أغسطس 09, 2010 11:15 am من طرف حجازى رشاد المحامى
» أحاديث صحيح البخارى ( الجزء التاسع ) حجازى رشاد المحامى
الإثنين أغسطس 09, 2010 11:03 am من طرف حجازى رشاد المحامى
» أحاديث صحيح البخارى ( الجزء الثامن ) حجازى رشاد المحامى
الإثنين أغسطس 09, 2010 10:13 am من طرف حجازى رشاد المحامى
» أحاديث صحيح البخارى ( الجزء السابع ) حجازى رشاد المحامى
الإثنين أغسطس 09, 2010 9:27 am من طرف حجازى رشاد المحامى
» أحاديث صحيح البخارى ( الجزء السادس ) حجازى رشاد المحامى
الإثنين أغسطس 09, 2010 9:13 am من طرف حجازى رشاد المحامى